الأحد، 17 يوليو 2016

كرامة مهدرة

لطالما تساءلت عما وراء نظراتها الحزينة، نظرات صامتة وسوداء. خادمة منزلية أحضرتها أمي لتساعدها في اعمالها المنزلية والتنظيف. لم تكن تثرثر كثيرًا، حتى لم تكن تطرح العديد من التساؤلات كمثيلاتها من الخادمات. لم تكن عيناها جارحتان لتفاصيل المنزل أيضًا. كانت فقط تأتي وتنظف وتقوم بمهامها وترحل. شيئًا فشيئًا اعتدنا عليها وصرنا نطلب منها أن تنظف منازلنا أيضًا وفي تلك الأيام البسيطة التي أتت لمنزلي راقبتها عن كثب. كانت تتجاذب أطراف الحديث مع والدتي فقط وعندما أوجه لها مديحًا ترد على استحياء.
على مائدة الطعام جلسنا نتناول الفطور سويًا، تأكل ببطء وتنظر بحزن. وإذا مازحتها أمي تضحك بخجل وتصمت. لم أفهمها مطلقًا. فالسابقات كن مفعمات أكثر بالحيوية. كن يتكلمن كثيرًا يحكين عن مشكلاتهن بوفرة. يتدخلن في كيفية ترتيب المنزل وعن الطرق المثلى لفرش السجاد وتلميع النجف. هي فقط تعمل في صمت وببطء شديد وأحيانًا تصاب بالتعب سريعًا وأحس ذلك في حركاتها الرتيبة في التنظيف حين تلمع شيئًا أو تكنس الأرض او تنفض الغبار.
ذات يوم جلست أمي وحكت لي قصتها الصغيرة، فتاة ريفية من عائلة متوسطة الحال خريجة جامعية ذات حلم صغير في الزواج والإنجاب كسائر البنات. أوقعها حظها العاثر في رجل ذو تعليم متوسط وأنجبت طفلين. هرب يومًا ما مع فتاة أخرى أصغر سنًا بكثير ووقعا في الخطيئة وحكم عليهم كبار القرية بالنفي من المحافظة لمدة سبع سنوات هو وزوجته الشرعية وطفليه وعشيقته. لم يقف أحدًا من أهلها للدفاع عن كرامتها ولا لتربية أطفالها ولا لإيواها. نزحت معه للقاهرة وبدأت تعمل بالبيوت كخادمة وهو كحارس عقار وتم تحرير عقد زواج عرفي لزوجته الثانية حتى تبلغ السن القانوني للزواج الشرعي. زوجها لا يحبها الآن بالطبع ويراها فقط كمصدر للدخل اليومي وهي تصرف بالكامل على البيت وعلى الأطفال وعلى زوجته الجديدة وعلى الطفل الجديد.
لم تعد تعمل تلك الخادمة لدى أمي الآن، لكنني لا أنسى نظراتها أبدًا، تلك المرأة كانت مكسورة وكانت في أعمق أعماق بؤر الإكتئاب. عندما مررت بالإكتئاب أنا الأخرى صرت أميز بشدة من يحمل بعينيه إكتئابًا – ليس حزنًا عاديًا- بل إكتئابًا.
كلما أتذكرها وأتذكر وهن جسدها، قلة شهيتها، نظرة عينيها، قلة نشاطها وأتذكر قصتها، تتردد بداخل قلبي رغبة قوية في العودة بالزمن لأراها وأحتضنها لأخبرها "أنا أشعر بك".
قررت تلك الخادمة يومًا أنه (كفى)، تركت أطفالها لزوجها والزوجة الثانية ورحلت. لم نعرف عنها شيئًا سوى أننا نرى أطفالها في طرقات الشارع يتجولون بلا أدنى إهتمام ومتسخين. فجأة عادت مرة أخرى، جاءت لمشاركة أمي كوب من الشاي وتطلب عملها السابق، اعتذرت أمي بلطافة أن هناك أخرى تشغل مكانها ولا يمكن استبدالها الأن بعد أن اعتمد دخلها على ما تعطيه إياه أمي. سألت أمي لاحقًا بكل عصبية وغضب:"لماذا عادت تلك الحمقاء؟ كنت أظنها ثارت على كرامتها المهدرة واستجمعت قواها"، ردت أمي بسخرية دون النظر إلي:"عن أي كرامة تتحدثين حين يتجول أطفالك اللطفاء الأحباء في الشوارع وهم مصابون بنوع من الجرب بسبب عدم الأستحمام لأسابيع وقد تكون شهور"، أصبت بصدمة فتابعت:"لم تهتم بهم زوجة أبيهم الثانية قط"، "أخبرها ولاد الحلال أن ضرتها تركتهم هكذا دون استحمام أو طعام أو حتى تسريح للشعر"، "المساكين أصيبوا بالجرب، عادت لتجد نوعًا ما من الفطر الأسود على جلدهم لا يغسل بالماء".
ثم ختمت أمي الحديث "عن أي كرامة تتحدثين وهي تملك أطفالًا".
كان هذا كفيلًا بأن أصمت وأكتفي بالغرق في أفكاري.

ليست هناك تعليقات: