الأحد، 17 يوليو 2016

لم أعد أكره نفسي لتلك الدرجة!



أتذكر جيدًا كوب الشاي باللبن مع شطائر الجبنة القريش صباحًا قبل الذهاب إلي المدرسة وفي الخلفية يعلو صوت المذياع في غرفة أبي وهو يرتدي بدلته للذهاب إلي العمل "بالسلامة يا حبيبي بالسلامة .. بالسلامة تروح وترجع بالسلامة" ، ترتب أمي حقائبنا بلفائف بلاستيكية بها أربع شطائر متنوعة وتنتظر سماع بوق أتوبيس المدرسة لننطلق مسرعات في طريقنا. أتذكر أيضًا ميعاد الغداء في الرابعة عصرًا كل يوم، بعد عودة أبي من العمل. كانت لدينا طقوس محددة ومواعيد ثابتة في الفطار والغداء وأحيانًا للعشاء.
لكنني لا أذكر جيدًا متى اضطرت علاقتي بالطعام، أذكر فقط أنني كنت أرغب في إرضاء أبي في أكل ما يراه مفيدًا ومناسبًا عكس أخواتي فأطلب المزيد من الزبادي وأكواب اللبن واللحم والخضراوات. لا أنسى تلك المرة التي أردت أن أشعره بالفخر في مناسبة إجتماعية ما وكان المضيف يضع لنا المزيد من الطعام والمزيد من اللحم والمزيد من الأرز، تأففت أخواتي ولكنني ظللت أكل حتى لا يتذمر أو يخجل أبي منا. أنتهى بي الأمر بأن أتقيئ كل ما أكلته في الحمام بعدها بخمس دقائق. لا أعرف لِمَ لم أكتف يومًا بأن اوضح ما أحب وما لا أحب. كانت تعبر "دينا" بكل صراحة عن عدم حبها لكوب اللبن وإشمئزازها من طبقة القشطة المتكونة في كوب الشاي باللبن الساخن، كانت تبدي رغبتها الصريحة في عدم أكل اللحم الدسم، تعبر "منار" وبكل وضوح عن حبها للجمبري فقط ولن تأكل أي نوع مأكولات بحرية بجانبه على المائدة في حين لا تأكل "رحاب" أي ماكولات بحرية على الأطلاق ولا تشاركنا الطاولة ولا الغرفة حينما نأكل أي منها. لكنني كنت اخجل من إبداء رأيي.
ولظروف مرضي بالصداع النصفي اضطررت في عمر المراهقة أخذ حبوب كورتيزون، جعلت علاقتي بالأكل تتسم بالشراهة، كنت جائعة طوال الوقت. أكل كثيرًا وتزامنت تلك الفترة مع الثانوية العامة فكنت أجلس لأذاكر مطولًا وتزداد فرص الأكل أكثر. لم أشعر وقتها أنني أكسب كل هذا الوزن، لكنني حتمًا رأيته في أعين من حولي، في المدرسة، في العائلة، بين صديقاتي، في خزانة ملابسي. حتى أنتزعتني من جهلي كلمات أبي الصادمة "بنتي التخينة البقرة". نعم إنه يتحدث عني بالتأكيد!! وقتها انقشعت غمة الجهل والعمي التي لففتها حول نفسي كيلا أشعر بالحزن والشفقة تجاه حالي. محاولات أمي لشراء ملابس لي وحدي، كلمات من حولي أنني تغيرت وصرت أبدو أكبر سنًا بجانب "دينا". أصبحت أرى النظرات وقتها بشكل مختلف، لأن جملة أبي أيقظتني من غفلة ما لم أكن أدركها.
لم أدرك أن مشكلتي مع الطعام ستتحول لإضطرابات، أصبحت أجلس على طاولة الطعام وأكل قليلًا حتى لا يحكم أبي على كمية الأكل التي أستهلكها، ثم أصبحت أقلل من زياراتي للمطبخ كأنني أشعر أن أحدًا ما يراقب عدد دخولي للمطبخ. ظللت أستيقظ في منتصف الليل جائعة بشدة وأتسلل لأكل أي شيء قد يقابلني. وطورت عادة جديدة هي مراقبة عادات أقراني الغذائية، كم يستهلك أخواتي، كيف تاكل دينا، متى تأكل رحاب، لماذا لا تأكل أمي ليلًا. أصبحت مهووسة برؤية من حولي وكيف يأكلون. كل ذلك الوقت ولم أكن أعر إنتباها للرقم الذي كنت أزنه. قارنت صورًا لي في مرحلة الثانوية ومرحلة الكلية لأجدني لم أتغير كثيرًا، في الثانوية لم أكن بدينة للغاية وفي الجامعة لم أفقد الوزن المهول.
شابًا يخبرني أنه يود الإرتباط بي لكن سيكون الأمر أفضل لو فقدت بعض من الكيلوجرامات، شابًا أخر نتقابل بشكل تقليدي يخبر والدته أن وجهي كالقمر ولكنه يقف بجانبي فيشعر أنه إبني أو أنا كوالدته. تعود تلك الكلمات المعتادة "ياااه هو أنتي الأصغر، لأ بجد شكلك الكبيرة". أغلق باب تلك الترهات وأنخرط في العمل، أستلم مرتبي الشهري وأنفق ثلثيه على الطعام، أفطر صباحًا في المنزل، وأكرر فطوري مع زملائي وأشرب العديد والعديد من أكواب الشاي والقهوة، أتناول طعام الغداء مع زميلتي ونخرج لنشرب ميلك شيك وأعود للمنزل فلا أخذل أمي واتناول الغذاء التي أعدته بعناية. أسهر لأكمل عملي يرافقني العديد والعديد من الشاي والقهوة. وتتشابه الأيام.
تضطرني ظروف صحية لزيارة الطبيب الذي يخبرني أنه علي أخيرًا مواجهة الميزان، وقد حدث وكرهت ذلك اليوم وكرهت الطبيب وكرهت نفسي وكرهت كل ظروفي الصحية. ظللت لفترة طويلة في حالة الكره هذه حتى واجهت الأمر. وأخذت الخطوة المعتادة "رياضة + تظبيط أكل"، ثم دايت معتدل لخسارة ما تبقى من الوزن رغم أن أمي تحدتني منذ اليوم الأول أنني غير قادرة على إنهاءه. نعم شعرت بالراحة، وكنت أقفز على الميزان وأشعر بالفخر. لكنني لم أحل عقدي مع الطعام بعد. تزوجت لأجد أن الموضوع أبسط من اللازم وأنه يمكنني بكل سهولة فتح حلة المحشي الباردة القابعة بالثلاجة وأكل منها دون الشعور أن أحد ما يراقبني ويحكم علي. زوجي لا يراقبني وأنا أكل بل يشجعني على التلذذ بتلك اللحظات الثمينة من الشهوة ونحن نأكل حمام محشي أو صينية مكرونة أو حتى تشيز كيك. وجدتني لاحقًا من يندب حظه العاثر ويشعر بالذنب تجاه نفسه. أنا من كنت أراقب حالي. أنا التي أشعر نفسي بالذنب والكره والحظ السيء.
أدركت لاحقًا أن أبي يكره البدانة ولا يسمح لنفسه بأن يربي كرشًا صغيرًا أمامه، فجدتي ماتت بمرض السكري وبوزن مهول جدًا كانت بالكاد تتحرك. أبي كان يخشى البدانة، أبي كان يعرف جيدًا أنه لا يريد لي هذا الأمر. أدركت لاحقًا أن "دينا" حقًا تبدو أصغر سنًا ليس لأنني بدينة، كلا! فالألم جعل وجهي يبدو أكبر سنًا. الألام التي أحاربها منذ الثامنة مع الصداع النصفي جعلتني أكبر سنًا. أدركت أن شراهتي وأكلي الزائد منذ الصغر كان إرضاءًا لأبي وكان في كل جوانب شخصيتي وليس متعلق بالطعام فقط. أدركت أنني الأن لست في وزني المثالي وعدت لإكتساب الوزن لأن مشكلاتي الصحية لم تنتهي، لكنني الأن أكثر إدراكًا عما مضى، فلا أجلد نفسي وصرت أعطيها قدرها، وأسامح أبي. وأسامح نفسي أولاً.

كرامة مهدرة

لطالما تساءلت عما وراء نظراتها الحزينة، نظرات صامتة وسوداء. خادمة منزلية أحضرتها أمي لتساعدها في اعمالها المنزلية والتنظيف. لم تكن تثرثر كثيرًا، حتى لم تكن تطرح العديد من التساؤلات كمثيلاتها من الخادمات. لم تكن عيناها جارحتان لتفاصيل المنزل أيضًا. كانت فقط تأتي وتنظف وتقوم بمهامها وترحل. شيئًا فشيئًا اعتدنا عليها وصرنا نطلب منها أن تنظف منازلنا أيضًا وفي تلك الأيام البسيطة التي أتت لمنزلي راقبتها عن كثب. كانت تتجاذب أطراف الحديث مع والدتي فقط وعندما أوجه لها مديحًا ترد على استحياء.
على مائدة الطعام جلسنا نتناول الفطور سويًا، تأكل ببطء وتنظر بحزن. وإذا مازحتها أمي تضحك بخجل وتصمت. لم أفهمها مطلقًا. فالسابقات كن مفعمات أكثر بالحيوية. كن يتكلمن كثيرًا يحكين عن مشكلاتهن بوفرة. يتدخلن في كيفية ترتيب المنزل وعن الطرق المثلى لفرش السجاد وتلميع النجف. هي فقط تعمل في صمت وببطء شديد وأحيانًا تصاب بالتعب سريعًا وأحس ذلك في حركاتها الرتيبة في التنظيف حين تلمع شيئًا أو تكنس الأرض او تنفض الغبار.
ذات يوم جلست أمي وحكت لي قصتها الصغيرة، فتاة ريفية من عائلة متوسطة الحال خريجة جامعية ذات حلم صغير في الزواج والإنجاب كسائر البنات. أوقعها حظها العاثر في رجل ذو تعليم متوسط وأنجبت طفلين. هرب يومًا ما مع فتاة أخرى أصغر سنًا بكثير ووقعا في الخطيئة وحكم عليهم كبار القرية بالنفي من المحافظة لمدة سبع سنوات هو وزوجته الشرعية وطفليه وعشيقته. لم يقف أحدًا من أهلها للدفاع عن كرامتها ولا لتربية أطفالها ولا لإيواها. نزحت معه للقاهرة وبدأت تعمل بالبيوت كخادمة وهو كحارس عقار وتم تحرير عقد زواج عرفي لزوجته الثانية حتى تبلغ السن القانوني للزواج الشرعي. زوجها لا يحبها الآن بالطبع ويراها فقط كمصدر للدخل اليومي وهي تصرف بالكامل على البيت وعلى الأطفال وعلى زوجته الجديدة وعلى الطفل الجديد.
لم تعد تعمل تلك الخادمة لدى أمي الآن، لكنني لا أنسى نظراتها أبدًا، تلك المرأة كانت مكسورة وكانت في أعمق أعماق بؤر الإكتئاب. عندما مررت بالإكتئاب أنا الأخرى صرت أميز بشدة من يحمل بعينيه إكتئابًا – ليس حزنًا عاديًا- بل إكتئابًا.
كلما أتذكرها وأتذكر وهن جسدها، قلة شهيتها، نظرة عينيها، قلة نشاطها وأتذكر قصتها، تتردد بداخل قلبي رغبة قوية في العودة بالزمن لأراها وأحتضنها لأخبرها "أنا أشعر بك".
قررت تلك الخادمة يومًا أنه (كفى)، تركت أطفالها لزوجها والزوجة الثانية ورحلت. لم نعرف عنها شيئًا سوى أننا نرى أطفالها في طرقات الشارع يتجولون بلا أدنى إهتمام ومتسخين. فجأة عادت مرة أخرى، جاءت لمشاركة أمي كوب من الشاي وتطلب عملها السابق، اعتذرت أمي بلطافة أن هناك أخرى تشغل مكانها ولا يمكن استبدالها الأن بعد أن اعتمد دخلها على ما تعطيه إياه أمي. سألت أمي لاحقًا بكل عصبية وغضب:"لماذا عادت تلك الحمقاء؟ كنت أظنها ثارت على كرامتها المهدرة واستجمعت قواها"، ردت أمي بسخرية دون النظر إلي:"عن أي كرامة تتحدثين حين يتجول أطفالك اللطفاء الأحباء في الشوارع وهم مصابون بنوع من الجرب بسبب عدم الأستحمام لأسابيع وقد تكون شهور"، أصبت بصدمة فتابعت:"لم تهتم بهم زوجة أبيهم الثانية قط"، "أخبرها ولاد الحلال أن ضرتها تركتهم هكذا دون استحمام أو طعام أو حتى تسريح للشعر"، "المساكين أصيبوا بالجرب، عادت لتجد نوعًا ما من الفطر الأسود على جلدهم لا يغسل بالماء".
ثم ختمت أمي الحديث "عن أي كرامة تتحدثين وهي تملك أطفالًا".
كان هذا كفيلًا بأن أصمت وأكتفي بالغرق في أفكاري.