السبت، 25 أغسطس 2018

نرجس


يحملها بين يديه بصلة صغيرة رقيقة وردية يهمس في أذنها أنه "أسميتها نرجس" كتلك الزهرة الشتوية المبكرة المعمرة، تسأله زوجته الهشة في غرفة المشفى: "ليه نرجس يا توفيق؟ .. الأسم قديم جدًا!" فيخبرها ساهمًا إنها كزهرة فريدة صفراء قوية تتميّز بقدرتها على قتل أعدائها، وكذلك أي نبات ينمو بجوارها. "مش عايز الحياة تهزمها ".

ها هي طفلة قصيرة خمرية اللون ذات شعر بني كثيف وعيون عسلية. تخطو "نرجس" خطواتها داخل مدرستها الكبيرة، يقرر مدرس اللغة الإنجليزية دون إعطاءها فرصة أنها ضعيفة جدًا تعليميًا ولا يليق بها مقاعد الصف الأول. فتتراجع مقعدين. لا تستطيع تكوين صداقات بسهولة ويجتاحها خجل الطفولة المحبب فتقرر زميلاتها  أن الإلقاء بها في أخر مقعد بالفصل شيء حتمي وضروري.
تجلس "نرجس" في المقعد الأخير "مقعد البلداء"، هكذا حكم عليها قبيل الشروع في خضم الدراسة أنها بليدة العقل والفهم ولا تناسب إحتياجات زملاءها في الفصل. استقرت "نرجس" في هذا المقعد ولم تحاول إنشاء صداقات، جاءت والدتها للمدرسة وصنعت جلبة مفهومة بالطبع "لماذا تجلس إبنتي في المقعد الأخير" (ده ديسك البلداء)؟، حاول المدرسون والمدرسات إقناعها أن "نرجس" اختارت المقعد بإرداتها وليس لفكرة التلميذ البليد مكان بمدرستنا. غادرت الأم وتركت إبنتها في نفس مقعدها.

في الصف التالي، أكملت دراستها بنفس الشكل هي لم ترسب ولكنها لم تكن من المتفوقين أيضًا، إلا أنها سمعت تلميذتان تتهامسان سرًا (دي شكلها بنت الدادة .. مش شايفة شكلها مبهدل وغلبان إزاي، محدش بيسمي بنت نرجس إلا الفلاحين)، تلك هي المرة الأولى التي عرفت فيها "نرجس" الأحكام التي يطلقها الناس جزافًا وقررت أنه لا داعي لإتخاذ أصدقاء، فالناس بطبعهم غير أسوياء. لذا كانت تعتقد دائمًا أن البيت هو الملاذ الأمن وتشعر بالراحة دائمًا لوجود مكان مخصص لتلك المشاعر المريحة. لم تعرف أبدًا لِمَ لم ينجب لها والديها أخوات، لكنها كبرت لتجد لنفسها كيانًا واحدًا وعالمًا يخصها وحدها.
في الثامنة من عمرها عًرفها والدها على طريقة مهمة جدًا لشغل الوقت، كان هناك عزاءًا كبيرًا وأقارب يرتدون السواد .. امسك والدها بيدها وكانت بجانبه طيلة الوقت، الكثيرون قالوا له (البت صغيرة تشوف السواد ده كله؟) لكنه احتضنها وظل يربت على صدرها بحنية كأنه يربت على قلبها فيُصبّر قلبه. وظلت هي كعادتها صامتة ولا تتكلم. وعندما انتهى كل شيء، اصطحبها لغرفتها لتنام وأخبرها بهدوء (أخويا مات انهاردة يا نرجس) ثم قبل جبينها ودثرها بالفراش. ورحل عن غرفتها دون أن يغلق النور.
لا تدري "نرجس" كم مر من الوقت حتى وجدت والدها خارج غرفته يجلس متكئا يعبث في العديد من الصناديق الورقية، يفتحها ويخرج ما بها منبهرًا. رأها تقف بجانب ردهة الصالون مرتكنة إلي عمود وتختبىء وراء الستارة، فناداها
-تعالي يا نرجس
=................
-شفتي عمك ساب لك إيه
=هو بعت لي الكتب دي كلها !!
-بعتهم لنا، أصله كان روحه في الكتب! أخويا كان بيخلص فلوسه في شراء الكتب، دلوقتي أنا مش مستغرب أننا ورثنا كتب.
=وهو قرأ الكتب دي كلها !
-مش عارف والله يا نرجس .. بس إحنا هنحاول نقرأهم بقى.
-...............................
=مالك ساكتة ليه؟
-مش عارفة هانشكر عمو إزاي على الكتب.
=لا متقلقيش. هو أكيد وصله الشكر يا ستي.
تسير"نرجس" وحيدة حزاء أسوار مدرستها الجديدة الثانوية، تحصي خطواتها البطيئة مرات عديدة وتفكر في ملايين الأفكار التي تمرح كجزيئات الهواء في رأسها، الأفكار وحدها صارت متعة "نرجس" الخاصة. اللعنة التي القاها والدها عليها للمرة الأولى عندما عرفها على الكتب. عارضته أمها كثيرًا حيث أن إبنتهم تحتاج مساعدة دراسية وليس مساعدة فكرية. لكن والدها قرر أنه من حقها التمتع بالقراءة طالما بها روح تتنفس. 
وفي عالمها الخاص عاشت، وحلمت وماتت وبعثت من جديد. مع كل ورقة تطوى وكل دفة كتاب تغلق تغوص "نرجس" في حلم نهاري بديع. ملكتها تلك اللعنة الشيطانية، صارت تسرح كثيرًا، تفكر أكثر من اللازم. تذهب في أي مكان وعقلها في مكان أخر. تخترع وتبني لنفسها كيانًا جديدًا، دنيا مميزة بشروط تناسبها وطباع مرنة لنفسها، تتحدث بداخل عقلها وتقتبس كلمات أبطال الروايات. تختلق أحداثَا وهمية وتعيش بداخلها وتحلم مفتحة العينين أنها تعيش بمكان أخر بشخصية أخرى.
تحلم "نرجس" أحلام يقظة أكثر مما يجب وأكثر مما يستحق أن تعطي للأحلام مساحات من الحياة. أصبحت تتنفس أحلامًا وخيالات. أشياءًا تريدها أن تحدث، أماكن تود زيارتها. فتنسحب من الواقع وتهرب. تكرر الأمر كثيرًا وصار غريبًا وموحشًا. أخبرتها والدتها أنها لم تعد تحتمل تلك التفاهات وهي لا تسكن هذا المنزل وحدها. وقد تَقَرر أنها تحتاج علاجًا نفسيًا وأصبحت غير طبيعية.
تذهب بها لطبيب أمراض نفسية وعصبية يجلس معها لعدة دقائق ويقرر أنها مريضة فصام ولا تأكل ولا تنام ولا تتحرك إلا بدواء ما يجعلها تلهث كثيرًا تعطش كثيرًا وتفقد الإحساس كثيرًا.
تجلس معها والدتها ترسم لها واقعًا عن كيف سيتقبل الناس من حولهم خبرًا كهذا. فمن الأفضل ألا نخبرهم يا "نرجس". لا يجب ألا يعرف أحدًا بأمر طبيبك النفسي ولا بأمر أدويتك. هذا سرنا الصغير. سيعتقدون أنك مجنونة ولربما لن تتمكني من الزواج أبدًا. لن ترشحك جارتنا واسعة المعارف لأي من معارفها بسبب هذا الأمر. من الأفضل ألا نخبرهم يا "نرجس". لا تخبري أصدقائك أيضًا. المجانين لا يملكون أصدقاء يا طفلتي. لا أحد يحب المجانين.
تفكر "نرجس" بداخل رأسها أنها لا تملك أصدقاء حقيقيين. فلا داعي للذعر يا أمي.