الاثنين، 19 فبراير 2018

لا أحد يريد بقعة من الحزن


تعرف أن ذكرياتك الأكثر ألمًا لا تنسى. يعمل عقلك بشكل عجيب للغاية، هو يريدك أن تتخطى تلك الأيام حقًّا لكن نفسك المهشمة تأبى أن تفلت تلك الصور فتعرضها عليك مرارًا وتكرارًا
صورة ١- أبي يشير للطبيب ولأمي ويقول مازحًا: "ما هي زي القردة أهي!!" 
صورة ٢- السقف الأبيض وستائر بلاستيكية تحيط بسرير في مشفى .. ليلة باردة وحيدة أبحث بهاتفي عن أرقام صديقاتي المقربات لأبلغهن بمصابي المشؤوم
صورة ٣- زميلة في العمل تزورني صباحًا. أرقد في فراش المشفى منهكة من أثار الأدوية ووغزات الإبر في أماكن بجسدي لم أكن أعلم أنها تستوجب الحقن. يزورني خاطر سريع كزيارتها أنه لم يهرع لرؤيتي غيرها. كم هذا رائعًا. ينقبض صدري بقوة ولا أرى جيدًا وكأن العالم أكبر من أن تحتويه حدقتا عيناي. أنا لا أتنفس جيدًا.
صورة ٤- تقول لي أمي: "الحمد لله! ربنا نجاكي .. أوعي تزعلي"
صورة ٥- هذا السقف الأبيض والستائر البلاستيكية المحيطة بقبرٍ في مشفى وإمرأة وحيدة بقلب مقبوض. تهمس لي زميلتي في الغرفة أنه لا يجب أن أحزن. "لكن أريد أن أحزن، يا زميلتي من وراء الستائر. أريد أن أبكي"
صورة ٦- أخبر الطبيب في عيادته الخاصة. قلبي يؤلمني كثيرًا. لا أستطيع التنفس. يجيبني بلا إكتراث: "ده زعل"
صورة ٧- لا أنهض. لا أصحو. لا أتكلم. لا أكل. لا أنام. لا أخرج. لا أعيش.
صورة ٨- يجلس إبني فوق صدري ويبكي بصراخ شديد: "اصحي يا ماما. ماما قومي"
صورة ٩- تتحول غرفة نومي السوداء، ملجأي الدائم ومخبأي من العالم إلي قبر في منزل بارد. لا أستطيع التحرك من هذا القبر صباحًا، ولا يمكنني النوم به بسهولة ليلًا
صورة ١٠- الكثير من النقد اللاذع حول ما تحولت إليه. كنت أنبض إهمالًا وأضخ حزنًا. لكنه لم يكن ساطعًا هكذا أنه اكتئاب.
صورة ١١- نقد أبي القاسي الذي طرحني أرضًا.
صورة ١٢- البكاء والكثير من البكاء. كانت الأيام تمر على روحي كسكين بارد تُقطع وتدمي
صورة ١٣- أردت البكاء كثيرًا في حضن وإتساع ولكن لفظتني المشاغل والظروف والتهميش واللاوعي ومزاعمهم أنني ضعفت حد الهشاشة.
صورة ١٤- تجنبني الكثيرون من حولي وكأنني زجاجة حبر أسود. لا يمكنك حمل زجاجة الحبر وفتحها وإلا تتلطخ يدك ببقعة. لا أحد يريد بقعة من الحزن. الحزن معدي

تخبرني الصور أنني لم أنجو بعد. أنا أعلم ذلك
أخبرتني طبيبتي أنني لم أسمح لحزني بالطفو على السطح حينما كان لابد له أن يظهر ويعلن عن نفسه. أخبرتني طبيبتي أن أبكي كثيرًا. البكاء يشفي. فهناك دومًا علبة من المناديل. الكثير من المناديل. أنا أحرص على شراء الكثير من المناديل الآن

لا أعرف ما الذي يثير عصف الذكريات أو الصور في لحظات بعينها. لا أعرف ما يكدر فراشي فزعًا

لكنني أعرف الآن لماذا حزنت كل هذا الحزن الجميل

وأعلم أن المرأة الوحيدة بقلب مقبوض على سرير تحيطه ستائر بلاستيكية كالقبر في مشفى محدقة في السقف الأبيض قد ماتت